fbpx

-البقاء لله فى شيخنا يا أحمد!

وضعت سماعة الهاتف وقد كسر زميلى فى حفظ القرآن بهذه الجملة القصيرة آخر مقاومة لى فى منع فيضان الدموع من عينى .

كنت لا أزال فى ذهول الصدمة وأنا أتذكر ما حدث صباح اليوم

دخلت المنزل المتواضع فى القرية التى طال ترددى عليها لأقوم بالتسميع يوميا لهذا الشيخ المسجى على فراشه…

السلام عليكم شيخنا…لا رد…تمتمة خفيفة فهمت حين اقتربت منه أنه يتمتم بآيات القرآن..
ألا تعرفنى؟…
دخلت علينا زوجته العجوز…انه لا يعرف أحدا… حتى أنه لا يعرفنى أنا رفيقة عمره

ولكنك إذا قرأت آية من القرآن ..أكمل لك من هذا الموضع…
فتحت عيناى عن آخرهما من الدهشة…

سبحان الله…يخرج من الدنيا لا يعرف أحدا حتى زوجته وليس له من رفيق إلا القرآن…يا لحسن الخاتمة..

نظرت إليها ثم إلى الشيخ المسجى ثم إلى زميلى

وضعت عيناى فى الأرض
ثم أصابتنى حالة من الصمت

لم أستطع الكلام ولم يكن هناك مجال للكلام أصلا بعد ما سمعت من زوجة الشيخ

قمت فى إشارة إلى زميلى لنرحل

لم أتبادل معه كلمة طول الطريق حتى ركبت السيارة

وحين عدت إلى منزلى لم أستطع الكلام مع أحد

التزمت غرفتى صامتا وأنا أفكر

يخرج من الدنيا لا يعرف إلا القرآن؟ ولا يعرف حتى زوجته رفيقة عمره…سبحان الله

غرقت فى أفكارى حتى المساء
حتى جاءتنى تلك المكالمة المقتضبة من زميلى
تلك المكالمة التى جعلتنى أعود بذاكرتى إلى بداية القصة
فى عام 1999 م
كنت طالبا فى السنة
قبل الأخيرة من كلية الصيدلة

لم أكن قد حصلت بعد على على إجازات القراءة والإقراء من شيوخى برواية شعبة ورواية حفص عن عاصم وبرواية ورش ورواية السوسى

ولم أكن قد حصلت بعد على إجازات القراءة والإقراء للمتون : كتاب الأربعون النووية والمنظومة الجزرية ومنظومة صريح النص ومنظومة تحفة الأطفال ومنظومة السلسبيل الشافى ومنظومة رسالة قصر المنفصل وغيرها..

بل اننى لم أكن قد بدأت حتى فى حفظ القرآن😔

..كانت الأيام تسير بلا هدف سوى التخرج والحصول على فرصة عمل كحلم أى شاب
كانت الأيام تسير رتيبة وإحساسى يتزايد بأن هناك أهداف أكبر من هذه لكى يعيش الإنسان من أجلها
ماذا بعد العمل وتكوين الأسرة …اننى على يقين من الموت فماذا قدمت لحياتى الحقيقية بعد الموت

كنت أسمع عن جزاء حافظ القرآن فى خطب الجمعة وكيف يقال له اقرأ وارتق ورتل كما كنت ترتل فى الدنيا فان منزلتك عند أخر آية تقرؤها
سمعت كيف يكسى والداه تاج الوقار فى الجنة بسببه

تمنيت أن أكون هذا الحافظ لكن كيف ومتى؟

الهدف بعيد ويحتاج الى تفرغ..هكذا فكرت وقتها

الى ان انهيت امتحانات هذه السنة فوجئت بزميل يسكن فى قرية مجاورة للمدينة التى أعيش فيها
يقول لى أريد أن أحفظ ما تيسر من القرآن وأحتاج رفيقا لهذا الدرب فما رأيك

دار فى ذهنى كل ما سمعت عن جزاء الحافظ وقلت له دون تفكير…
أنا معك فورا😄

سارت الأمور بسرعة
عرفنى زميلى بشيخنا والذى كان يسكن الى جواره فى القرية الصغيرة التى يقيم بها والتى تبعد عن المدينة حوالى خمسة كيلومترات
كان يعمل فى أحد المدارس كعامل بسيط
لكن شأنه فى قريته كان كملك متوج
اذ لم يكن أحد يتطلع للإمامة فى الصلاة وهو موجود
كان إمام قريته بما حمل فى صدره من القرآن…

وعلى الرغم من البساطة فى تعاملاته الا انه كانت له مهابة ومحبة فى قلب كل من يلقاه

كنت أركب المواصلات للذهاب وتسميع ربع حزب يوميا ثم أعود
لكن هذا المجهود اليومى كانت له لذه خاصة
اذ ان مرور الأيام أصبح له هدف أسمى
وكل يوم كان يقربنى خطوة بسيطة نحو حلم مازال بعيدا

الى ان انتهت أيام الأجازة القصيرة واضطررت للانقطاع للعودة الى الدراسة فى السنة الأخيرة للكلية

وهنا بدأت الحيرة 😞

لم أعد للدراسة كنفس الإنسان الذى كان

لقد حفظت البقرة وآل عمران

حفظهما فقط فى حد ذاته كان حلما منذ فترة ليست بالبعيدة وها هو قد تحقق

فماذا ستفعل فى باقى الحلم ؟

كنت أظن أننى قد وضعت قدمى على الطريق وأن الرحلة ستكون سهلة
الى نهاية الحلم بحفظ القرآن كاملا

لم أحسب حساب ضيق الوقت أو ضغط التزامات الحياة فى المستقبل القريب
ثم اذا كنت قد اضطررت للانقطاع عن الحفظ وأنا طالب فماذا بعد التخرج ووجود المسؤوليات من عمل والتزامات مالية والتزامات تكوين الأسرة
ثم التزامات الأسرة نفسها من زوجة وأبناء
كيف سأستطيع ايجاد الوقت والمجهود اللازمين
لتحقيق حلم حفظ القرآن

كان استمرار الحفظ مع دراستى العملية والتى نبدأ فيها الامتحانات بعد أول ستة أسابيع من الدراسة أمر فى غاية الصعوبة

لذا فقد ظلت هذه الأفكار تدور فى ذهنى طول فترة السنة الأخيرة محاولا أن أجد حلا لتحقيق حلمى
وقبل انتهاء السنة كان لا بد لى أن أتخذ قرارا

كانت هذه هى السنة الأخيرة فى الكلية والتى من المفترض بعدها أن أخرج إلى الى سوق العمل وترك حياة الطالب الى حياة المسؤولية والكفاح

وبعد تفكير طويل
قررت الأتى

قررت أننى سأقضى فترة الستة أشهر بين انتهاء الامتحانات وموعد بداية الخدمة الالزامية فى الحفظ

قررت أننى لن أعمل حتى أتم حفظ القرآن

كان قرارا صعبا واكتشفت خلال أول ثلاثة اشهر أن حفظ القرآن لا يتطلب التفرغ طول اليوم

يكفى فقط تخصيص وقت للحفظ والالتزام به خلال اليوم
أما قضاء اليوم كله -كما كنت أظن- فغير مطلوب أبدا

عملت بعدها لثلاثة أشهر فى احدى الصيدليات
وكان العمل فيها هادئا فمكننى ذلك من التقاط بعض الوقت للحفظ

لم يكن الامر سهلا كما ظننت

فهناك ضغط الوقت وضغط العمل و قد بدأت مصاعب الحياة تتضح لمن كان بالأمس طالبا غير مسؤول الا عن مذاكرته وفقط

ومع هذا فقد تمكنت فى هذه الأشهر الستة من اتمام ما بدأت

يا الله

أخيرا أتممت حفظ القرآن🙂

ولدهشتى

لم أفرح كثيرا كما ظننت أننى سأفعل بعد انتهاء الحفظ

فقد أدركت عندها أن الحفاظ على النجاح أهم من النجاح

وأن المراجعة الستمرة شرط للحفاظ على الحفظ

فكرت سريعا أننى
أستطيع بعد دخولى الخدمة الإلزامية أن أراجعه خاصة مع وجود الوقت

ومنيت نفسى بذلك
لكننى لم أستطع المحافظة على ما وعدت نفسى به من مراجعة منتظمة

وكانت الكارثة😫😫😫

خرجت من الخدمة ناسيا كل ما حفظت!!!

يا الله…كيف هذا؟
والمجهوووووووووود الذى بذلته؟
ماذا عن ركوب المواصلات يوميا للتسميع على الشيخ؟
وماذا عن المحافظة على ورد الحفظ رغم ضغط الوقت
ماذا عن الحلم ؟
هل يضيع بعد كل هذا؟

هرعت لأسأل الحفظة لعل عندهم الجواب…فوجئت..
كلهم يشكو نفس الشئ …النسيان….الا من رحم ربى…وقليل ما هم…

لكنى لم أعرف الجواب وقتها… كيف أستعيد ما ضاع..وما أثمنه!!

فكرت فى الأسباب…
وجدت أن أهمها عدم وجود طريقة منظمة للمراجعة

جربت عدة طرق…
كلها صعبة ولا تؤدى الى النتيجة المرجوة…اننى أريد حفظا كالفاتحة..

فكرت كثيرا لكننى لم أهتدى الى جواب يطمئن قلبى
و المشكلة قائمة
كيف أستعيد ما حفظته…

وليس هذا فقط…
بل كيف أحتفظ به بعد استعادته ولا يضيع مرة أخرى؟

لم أجد الجواب حينها…

بل إن المشكلة زادت نتيجة ل
الخروج إلى الحياة
ومتطلبات العمل
ومن بعده
هموم الخطبة والزواج والأولاد…
يا الله…أنقذنى…

وفى هذه اللحظة بالذات
جاءتنى مكالمة من رفيق دربى فى الحفظ

خبر سئ..الشيخ على فراش الموت…
وضعت الهاتف وأخبرته”مسافة السكة”
وحدث ما قصصته عليك

لقد أصابنى هذا الموقف بصدمة شديدة ودفعنى الى التفكير مرات ومرات
ما هذه الخاتمة الجميلة
يختم له بأن يخرج من الدنيا لا يعرف إلا القرآن
كيف ختم له بهذا؟
فكرت وفكرت
ثم
أدركت أن الشيخ قد عاش بالقرآن فأخذه معه…
وأننى إذا أردت أن آخذه معى فلا بد أن أعيش له كما عاش هذا الإنسان العظيم

وصلت إلى إجابة سؤالى وحل مشكلتى

قرآن بدون نسيان

النظام الذى أسير عليه حتى آخذ قرآنى معى كما أخذه شيخى

وقررت

أن أنقل تجربتى لغيرى

أن أربط حياتى بالقرآن

أن أعيش
لهذا الكتاب وبه

أن أتعلم أكثر وأكثر فقرأت على الشيوخ وأخذت عنهم الإجازات بالروايات القرآنية وإجازات بالمتون المختلفة

أن أعيش مبشرا بجنة الدنيا

أن أرشد الناس إلى منهج التعامل مع القرآن

أن أعرفهم أن الحفظ ليس حفظا وفقط
وإنما ينبغى قبله تعلم القراءة الصحيحة فهى التى تبنى الحفظ على أساس سليم
وأن الحفظ اذا لم يكن معه الاتقان فمصيره إلى النسيان
وأن أعرفهم أن المراجعة المنتظمة هى خير سلاح للحفاظ على انجازك العظيم بحفظ القرآن

قررت أن أعيش يومى أسمع القرآن من غيرى وأصحح له كما صحح لى شيوخى

قررت أن أعلم غيرى ما تعلمت خلال هذه الرحلة الطويلة

ويا لها من رحلة رغم التعب

وما زالت الرحلة مستمرة

فهل ستكون أنت الحافظ التالى؟

البداية من هنا

Share on email
Email
Share on linkedin
LinkedIn
Share on twitter
Twitter
Share on facebook
Facebook

اترك تعليقاً